Thursday, September 9, 2010

ثلاثة أعياد..قصة واقعية


عيد الفطر 1994

أستيقظ على صوت المنبه الأحمر الذي أكرهه لأنه يزعجني يوميا في ميعاد المدرسة؛ فأنا تلميذ بالصف الرابع الابتدائي.. متفوق في دراستي ولكني أكره الاستيقاظ مبكرا -عادة سترافقني بقية عمري-. ولك هذه المرة أستقيظ في منتهى السعادة والنشاط. في الحقيقة لم أكن أحتاج المنبه كثيرا؛ فأنا لم استغرق في النوم للحظة بسبب التفكير طوال الليل فيما سأفعله طوال يوم الغد. أقوم لأغسل وجهي وأخلع البيجاما الجديدة لاستبدلها بملابس العيد الجديدة -فوق الملابس الداخلية الجديدة أيضا!-، وأوقم بإيقاظ كل من في المنزل حتى لا يفوتهم لحظة من اليوم (وحتي أبدأ جني العيدية مبكرا جدا من والدي ووالدتي!).

أسرع للمسجد القريب من منزلنا من أجل صلاة العيد. على باب المسجد يقومون بتوزيع ورق ملون بألوان مختلفة: سماوي وأصفر وبرتقالي وبمبي. أقوم بالحصول على ورقتي باللون الذي أحبه بالرغم من أنني أحفظ كل حرف موجود بها، ولكن الحصول على هذه الورقة طقس لابد منه لاكتمال صلاة العيد. آخذ الورقة وأدخل لأجلس وأبدأ بترديد السطور المكتوبة بها مع الموجودين في المسجد، والذين يقودوهم عبر المايكروفون حارس المسجد الذي يعاملني وأصدقائي بقسوة طوال أيام العام باعتبارنا "عيال أشقياء وبنجري وندبدب في الجامع"، ولكنه -فقط في يوم العيد- يبتسم لنا ويعاملنا بود ولربما هنئنا بعد الصلاة بالعيد كذلك. يمسك الرجل بالمايكروفون ويردد وكلنا معه..

الله أكبر الله أكبر الله أكبر..لا إله ألا الله..الله أكبر الله أكبر الله أكبر..ولله الحمد..الله أكبر كبيرا..والحمد لله كثيرا..وسبحان الله بكرة وأصيلا..لا إله إلا الله..وحده..صدق وعده..ونصر عبده..وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده..لا إله إلا الله..ولانعبد إلا إياه..مخلصين له الدين ولو كره الكافرون..اللهم صلي على سيدنا محمد..وعلى آل سيدنا محمد..وعلى أصحاب سيدنا محمد..وعلى أزواج سيدنا محمد..وعلى أنصار سيدنا محمد..وعلى أتباع سيدنا محمد..وعلى أشياع سيدنا محمد..وعلى ذرية سيدنا محمد وسلم تسليما كثيرا

أردد الكلمات بمنتهى السعادة بعدما تمكنت من حفظها العام الماضي. فقد كان لدي مشكلتين تتعلقان بصلاة العيد: الأولى هي حفظ هذا الدعاء ذي الموسيقى الخلابة، والذي كنت وأصدقائي نتسابق في ترديده وحفظه واستعراض كلماته أمام بعضنا منذ تعلمنا صلاة العيد قبل ثلاثة أعوام. والمشكلة الثانية هي التمكن من التماسك وعدم الضحك أثناء السبع تكبيرات المتتالية للصلاة نفسها والذي اعتاد أخي أن يبدأ الضحك في الرابعة أو الخامسة منها لأنخرط معه أنا الآخر في ضحك مكتوم. العام الماضي قمت بحفظ التكبيرات عن ظهر قلب، وهذا العام تماسكت ولم أضحك أثناء الصلاة.. نجاح باهر جعلني أعود مسرعا للمنزل استعدادا لأكل الكحك واستكمال أحداث اليوم الحافل. وبمجرد دخولي للمنزل أقول لوالدي ووالدتي بمنتهى الفرحة: "بابا..ماما..أنا باحب العيد قوي"

عيد الفطر 2000

هذه المرة أصبحت طالبا في الصف الثاني الثانوي.. رجلا كبيرا يرتدي البنطلون الجينز "الثلجي" والتيشرت "الأمريكان ستايل" ويستمع لموسيقى "باك ستريت بويز"..يملك موبايل ويضع جيل في شعره ولديه فتاة تشبهه يؤمن بأنه يحبها. هذه المرة لم أحتج أن اضبط المنبه لأنني لم أنم من الأمس. بعد سهرة مع الأصدقاء بدأت بالقهوة ثم تناول العشاء ثم شراء شريطين كاسيت لموسيقى البوب المفضلة، عدت لأسهر في المنزل بين سماع الشريطين الجدد والحديث في التليفون مع الفتاة ولعب الفيفا 2001 التي أحضرت نسخة منها مؤخرا.

أنزل لصلاة العيد ولكن بملابس قديمة هذه المرة؛ فالملابس الجديدة أوفرها لأذهب بها إلى النادي عصرا حيث سألتقي بفتاتي لنحتفل بالعيد، ولربما قمت اليوم بالإمساك بيدها إذا ما كانت الظروف مواتية. أرتدي الملابس القديمة -ولكنها نظيفة ومغسولة ومكوية- وأنزل إلى نفس الجامع القريب. على الباب يقومون بتوزيع الأوراق الملونة ولكن لا تلفت ألوانها نظري هذه المرة. أمد يدي بحركة ميكانيكية آخذ ورقتي وأذهب لأجلس في جانب المسجد. الحارس العجوز لا يزال في مكانه أمام المايكروفون ولكن الأعوام تركت علاماتها على وجهه. أردد معه التكبيرات بتلقائية ثم أنظر للورقة فيصدمني وجود شطب قبيح بقلم جاف على أحد جمل الورقة. أستغرب الأمر وأقوم بسد أذني بأصابعي لأقوم بترديد الدعاء من الذاكرة لأصل للجملة المفقودة. أكتشف سريعا أنها جملة "وعلى أشياع سيدنا محمد". أنظر في ورقة الجالس بجانبي لأتأكد أن الشطب موجود في كل الورق الذي تم توزيعه. أميل لأهمس في اذنه وأسأله إذا كان يعرف سر هذا الشطب للجملة التي لاحظت أيضا أن حارس المسجد لا يقوم بترديدها في تكبيراته. يرد الرجل بمنتهى التلقائية: "أصلها بتقول أشياع سيدنا محمد..يعني شيعة..والشيعة دول كفرة"

عيد الفطر 2010

بعد أكثر من خمس سنوات من مقاطعة صلوات العيد أقرر أن أصليها هذه المرة. ربما لأنني وصلت للتو للمنزل بعد سهرة مع أصدقائي في فيلا يملكها أحدهم بقرية من قرى المنوفية، وربما لأن اليوم هو الجمعة وصلاة العيد ستعفيني من الاستيقاظ ظهرا لصلاة الجمعة، وربما لأنني خجلت من نزول أبي وأخي وشقيقتي ذات الأعوام العشرة للصلاة بينما يبقى الأخ الأكبر في المنزل، وربما كان الأمر فقط محاولة لاكتشاف سر فقدان العيد لطعمه في السنوات الماضية. فبعد التخرج والعمل، ثم ترك العمل لاختيار الحياة التي أفضلها، والتحقق النسبي لم يعد بإمكاني للحظة الشعور ولو بربع المتعة التي كنت أحسها قديما.

بنفس الملابس التي قضيت بها سهرتي أنزل لنفس المسجد. هذه المرة لا مجال لتوفير الملابس الجديدة لموعد غرامي أو لأي مناسبة أخرى؛ فأنا لم أقم بشراء ملابس جديدة من الأساس. على باب المسجد لا وجود لمن يوزع الأوراق الملونة القديمة.. لا يثير الأمر دهشتي فخمس أو ست سنوات فترة كافية لتغيير طريقة التذكير بالدعاء.. أدخل فأصلي ركعتين تحية للمسجد..ثم أجلس لأردد التكبيرات الحبيبة وأبحث بعيني عن الحارس العجوز..لتصدمني مفاجأتان: لا وجود للحارس ولا وجود للتكبيرات!

فالمايكروفون يمسك به رجلان في الثلاثينات.. كلاهما ملتح.. يقومان بتبادل إمساك دفة التكبير ليريح كل منهما الآخر.. ويرددان بدأب وتكرار وحماس شديدين، وبتلاوة مشابهة لتلاوات شيوخ الحرمين..

الله أكبر الله أكبر الله أكبر.. لا إله إلا الله.. الله أكبر الله أكبر الله أكبر.. ولله الحمد

فقط! هذا هو كامل الأمر.. لا يوجد رب صدق وعده وهزم الأحزاب وحده.. لا يوجد ما نقسم أننا لا نعبد الا إياه ولو كره الكافرون.. ولا صلاة على سيدنا محمد ولا على آله وأتباعه وأزواجه..ولا بالطبع على أشياعه!

تكرار الجملة القصيرة أفقد الأمر لذته وصبغه بصبغة ملل لا يمكن تجاهلها على وجوه المصلين.. أول ما فكرت فيه هو الأطفال.. الأطفال الذي كنت في سنهم أقضي ليلتي أحلم بهذه التكبيرات وموسيقاها.. أدور بنظري في أرجاء المسجد لأرصد خمسة أو ستة أطفال.. غير منتبهين وغير مهتمين بما يحدث حولهم برمته.. واحد منهم فقط يردد الكلمات بميكانيكية وعيناه تجول في كل مكان حوله.. عذرتهم فأنا الشخص الكبير شعرت بالملل فما بالك بهذه الكتل المعجونة حيوية ونشاطا وشقاوة.. وضعت أصابعي في أذني حتى لا أسمع ما يدور حولي وبدأت في ترديد تكبيراتي التي أحبها وحيدا.. أقاموا الصلاة فقمت لأصلي الركعتين ثم أغادر المسجد مسرعا ومعي معظم الموحودين وكل الأطفال.. ملت لأسأل من يسير بجواري عن سر اختصار التكبيرات المحفوظة.. فرد بمنتهى الحماس: "أصل دي الجمل المذكورة في السنة..باقي الجمل ملهاش مصدر وبدعة لا يجوز ترديدها"

غادرت المسجد مسرعا نحو المنزل وكل ما يدور في ذهني هو جملة واحدة: "أنا مش باحب العيد..خالص"

طنطا - صباح 10 سبتمبر 2010 - اليوم الأول من عيد الفطر

2 comments:

جوداء said...

(روعه)
لو قلتلك انى اتوجعت فعلا وانا بقرأ القصه دى ماهو فعلا حاجه توجع لما تقرأ عن نفسك لانك لاتتخيل كم كانت صلاه العيد هذة هى العيد بالنسبه لى والان هى مجرد فسحه صباحيه واستيقاظ فى وقت لااعرف ماذا يفعل الناس فيه طوال العام
انا عارفه ان ده تعليق طويل بس انا ممكن اكتب عن القصه دى قصه بس بجد(روعه)

جوداء said...

(روعه)
لو قلتلك انى اتوجعت فعلا وانا بقرأ القصه دى ماهو فعلا حاجه توجع لما تقرأ عن نفسك لانك لاتتخيل كم كانت صلاه العيد هذة هى العيد بالنسبه لى والان هى مجرد فسحه صباحيه واستيقاظ فى وقت لااعرف ماذا يفعل الناس فيه طوال العام
انا عارفه ان ده تعليق طويل بس انا ممكن اكتب عن القصه دى قصه بس بجد(روعه)